فصل: باب اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كِتَاب الْقَدَرِ

باب فِى الْقَدَرِ

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ، بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ، أَوِ الرَّجُلَ، يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا، ‏(‏وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ، أَوْ ذِرَاعَيْنِ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا، فَيَقُولُ‏:‏ أَىْ رَبِّ، نُطْفَةٌ، أَىْ رَبِّ، عَلَقَةٌ، أَىْ رَبِّ، مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِىَ خَلْقَهَا، قَالَ‏:‏ أَىْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى‏؟‏ أَشَقِىٌّ أَمْ سَعِيدٌ‏؟‏ فَمَا الرِّزْقُ‏؟‏ فَمَا الأجَلُ‏؟‏ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِى بَطْنِ أُمِّهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا الحديث رد لقول القدرية واعتقادهم أن العبد يخلق أفعاله كلها من الطاعات والمعاصى، وقالوا‏:‏ إن الله منزه عن أن يخلق المعاصي والزنا والكفر وشبهه، فبان فى هذا الحديث تكذيب قولهم، بما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يكتب فى بطن أمه شقى أو سعيد مع تعريف الله العبد أن سبيل الشقاء هو العمل بالمعاصى والكفر، فكيف يجوز أن يعمل بما أعلمه الله أنه يعذبه عليه، ويشقيه به، مع قدرة العبد على اختياره لنفسه، وخلقه لأعماله دون الله، تعالى الله أن يكون معه خالق غيره‏.‏

ثم قطع القدرية بقوله‏:‏ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، فلو كان الأمر إلى اختياره أتراه كان يختار خسارة عمله طول عمره بالخير، ثم يخلق لنفسه عملاً من الشر والكفر، فيدخل به النار‏؟‏ وهل السابق له إلا فعل ربه وخلقه له، وخلق عمله للشئ كسبًا له فاكتسبه العبد لشهوة نفسه الأمارة بالسوء مستلذًا بذلك العمل الذى أقدره الله عليه بقدرة خلقها له بحضرة الشيطان المغوى لنفسه الأمارة له مع الشيطان بالسوء فاستحق العقاب على ذلك‏.‏

فانقطعت حجة العبد بالنذارة، وانقطعت حجة القدرية بسابق كتاب الله على العبد العارف بما آل أمره، باكتسابه للعمل القبيح، لخلق الله له قدرة على عمله بحضرة عدويه‏:‏ نفسه وشيطانه، ولذلك نسب الشر إلى الشيطان لتزيينه له، ونسب الخير إلى الله لخلقه لعبده، وإقداره للعبد عليه بحضرة الملك المسدد له، الدافع لشيطانه عنه بعزة الله وعصمته‏.‏

هذا هو أصل الكلام على القدرية ثم يلزم القدرية أن يكون العبد شريكًا لله فى خلقه بأن يكون العبد يخلق أفعاله والله قد أبى من ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 62‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 3‏]‏، فخالفوا النص وأوجبوا للعبد من القدرة على خلق أعماله ما أوجبه الله لنفسه تعالى من الانفراد بالخلق، ولذلك سميت القدرية‏:‏ مجوس هذه الأمة لقولها بخالقين مثل ما قالته المجوس من اعتبارها لأرباب من الشمس والقمر والنور، والنار والظلمة، كل على اختياره، وقد نص الله سبحانه وتعالى على إبطال قول القدرية لعلمه بضلالتهم ليهدى بذلك أهل سنته فقال‏:‏ ‏(‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 96‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ يجمع فى بطن أمه‏:‏ قد فسره ابن مسعود، سئل الأعمش عن قوله‏:‏ يجمع فى بطن أمه قال‏:‏ حدثنى خيثمة قال‏:‏ قال عبد الله‏:‏ إن النطفة إذا رفعت فى الرحم، فأراد الله أن يخلق منها بشرًا طارت فى بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة ثم تصير دمًا فى الرحم فذلك جمعها‏.‏

باب جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ قَالَ لِىَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ‏)‏‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏لَهَا سَابِقُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 61‏]‏ سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ‏.‏

- فيه‏:‏ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ‏)‏، قَالَ‏:‏ فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَوْ لِمَا يُسِّرَ لَهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ غرض البخارى فى هذا الباب غرضه المتقدم من إدحاض حجة القدرية بهذه النصوص من كلام رسوله، فأخبر أنه قد فرغ من الحكم على كل نفس، وكتب القلم ما يصير إليه العبد من خير أو شر فى أم الكتاب، وجف مداده على المقدور من علم الله‏.‏

فأضله الله على علم به، ومعرفة بما كان يصير إليه أمره لو أهمله ألا يسمعه قد بين ذلك فى كتابه حيث يقول‏:‏ ‏(‏هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏‏.‏

فعرفنا أنه كان بنا عالمًا حين خلق آدم من طينة الأرض المختلفة وأحاط علمًا بما يقع من تلك الطينة لكل شخص من أشخاص ولده إلى يوم القيامة، المتناسلين من صلب إلى صلب فى أعداد لا يحيط بها إلا محيصها، وعلم ما قسمه من تلك الطينة من طيب أو خبيث، وعلم ما يعمل كل واحد من الطاعة والمعصية ليشاهد أعماله بنفسه، وكفى بنفسه شهيدًا عليه، وتشهد له عليه ملائكته وما عاينه من خلقه، فتنقطع حجته، وتحقق عقوبته ولذلك قال لأبى هريرة حين أراد أن يختصى خشية الزنا على نفسه‏:‏ ‏(‏قد جف القلم بما أنت لاق‏)‏‏.‏

فاختص على ذلك أبو ذر، فعرفه أنه لا يعدو ما جرى به القلم عليه من خير أو شر، فإنه لابد عامله ومكتسبه، فنهاه عن الاختصاء بهذا القول الذى ظاهره التخيير، ومعنى النهى والتبكيت لمن أراد الهروب عن القدر والتعريف له أن إن فعل، فإنه أيضًا من القدر المقدور عليه فيما جف به القلم عليه‏.‏

وقد سئل الحسن البصرى عن القدر فقال‏:‏ إن الله خلق الخلق للابتلاء، لم يطيعوه بإكراه منه، ولم يعصوه بغلبة، ولم يهملهم من المملكة؛ بل كان المالك لما ملكهم فيه، والقادر لما قدره عليهم، فإن تأثم العباد بطاعة الله لم يكن الله صادًا عنها، ولا مبطئا؛ بل يزيدهم هدى إلى هداهم، وتقوى إلى تقواهم، وإن تأثم العباد بمعصية الله كان القادر على صرفهم؛ إن شاء فعل وإن شاء خلى بينهم وبين المعصية فيكسبونها، فمن بعد الإعذار والإنذار لله الحجة البالغة، لا يسئل عما يفعل وهم يسألون، فلو شاء لهداكم أجمعين‏.‏

وقال المهلب‏:‏ فى حديث عمران حجة لأهل السنة على المجبرة من أهل القدر وذلك قوله‏:‏ ‏(‏اعملوا، فكل ميسر لما خلق له‏)‏‏.‏

ولم يقل‏:‏ فكل مجبر على ما خلق له، وإنما أراد لما خلق له من عمله للخير أو للشر‏.‏

وقيل‏:‏ إنما أراد بقوله‏:‏ لما خلق له الإنسان من جنة أو نار، فقد أخبر أنه ميسر لأعمالها ومختار لا مجبر؛ لأن الخبر لا يكون باختيار، وإنما هو بإكراه‏.‏

باب اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، مثله‏.‏

وقال عن النَّبِىّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُونَ الْبَهِيمَةَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ غرضه فى هذا الباب الرد على الجهمية فى قولهم‏:‏ إن الله لا يعلم أفعال العباد حتى يعملوها‏.‏

فرد النبى صلى الله عليه وسلم ذلك من قولهم، وأخبر فى هذا الحديث أن الله تعالى يعلم ما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، ومصداق هذا الحديث فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏، وقال فى آية أخرى‏:‏ ‏(‏وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَّسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏، فإذا ثبت بهاتين الآيتين المصدقتين لحديثه صلى الله عليه وسلم أنه يعلم ما لا يكون لو كان كيف كان يكون، فأحرى أن يعلم ما يكون، وما قدره وقضاه فى كونه‏.‏

وهذا يقوى ما يذهب إليه أهل السنة أن القدر هو علم الله وغيبه الذى استأثر به فلم يطلع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلاً‏.‏

وروى روح بن عبادة عن حبيب بن الشهيد عن محمد بن سيرين قال‏:‏ ما ينكر هؤلاء، يعنى القدرية، أن يكون الله علم علمًا فجعله كتابًا‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن بعض الأنبياء كان يسأل الله عن القضاء والقدر، فمحى من النبوة‏.‏

وروى ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا ذكر القدر فأمسكوا‏)‏‏.‏

وقال بلال بن أبى بردة لمحمد بن واسع‏:‏ ما تقول فى القضاء والقدر‏؟‏ فقال‏:‏ أيها الأمير، إن الله لا يسأل عباده يوم القيامة عن قضائه وقدره، وإنما يسألهم عن أعمالهم‏.‏

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصرى‏:‏ إن الله لا يطالب خلقه بما قضى عليهم، ولكن يطالبهم بما نهاهم عنه، وأمرهم به، فطالب نفسك من حيث يطالبك ربك‏.‏

وسئل أعرابى عن القدر، فقال‏:‏ الناظر فى قدر الله كالناظر فى عين الشمس يعرف ضوءها، ولا يقف على حدودها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كما تنتجون الناقة‏)‏‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ يقال‏:‏ تنتجت الناقة إذا أعنتها على النتاج‏.‏

باب ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 38‏]‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا؛ لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلْتَنْكِحْ، فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أُسَامَةَ، أتى إِلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ، أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا‏:‏ ‏(‏لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى، فكُلٌّ بِأَجَلٍ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ إذ جَاءَه رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ‏:‏ كَيْفَ تَرَى فِى الْعَزْلِ‏؟‏ فَقَالَ لَيْس بِنَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلا هِىَ كَائِنَةٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، خَطَبَنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلا ذَكَرَهُ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، إِنْ كُنْتُ لأرَى الشَّىْءَ قَدْ نَسِيتُ فَأَعْرِفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَلِىّ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ فِى الأرْضِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ‏)‏، قَالَ رَجُلٌ من الْقَوْمِ‏:‏ أَفلا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏لا اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَّا خُلِقَ لَهُ‏)‏، ثُمَّ قَرَأَ‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى‏}‏ الآية ‏[‏الليل‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقال المهلب‏:‏ غرضه فى هذا الباب أن يبين أن جميع مخلوقات الله من المكونات بأمره بكلمة كن من حيوان أو غيره، أو حركات العباد واختلاف إرادتهم وأعمالهم بمعاص أو طاعات؛ كل مقدر بالأزمان والأوقات، لا مزيد فى شىء منها، ولا نقصان عنها، ولا تأخير لشىء منها عن وقته، ولا تقديم قبل وقته، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تسأل المرأة طلاق أختها‏)‏ لتصرف حظها إلى نفسها، ولتنكح، فإنها لا تنال من الرزق إلا ما قدر لها، كانت له زوجة أخرى أو لم تكن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏)‏‏.‏

فيه دليل على إبطال قول أهل الجبر؛ لأن التيسير غير الجبر، واليسرى العمل بالطاعة، والعسرى العمل بالمعصية‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فى حديث علىّ أن الله لم يزل عالمًا بمن يطيعه فيدخله الجنة، وبمن يعصيه فيدخله النار، ولم يكن استحقاق من يستحق الجنة منهم بعلمه السابق فيهم، ولا استحقاقه النار لعلمه السابق فيهم، ولا اضطر أحدًا منهم علمه السابق إلى طاعة أو معصية، ولكنه تعالى نفذ علمه فيهم قبل أن يخلقهم، وما هم عاملون وإلى ما هم صائرون، إذ كان لا تخفى عليه خافية قبل أن يخلقهم، ولا بعد ما خلقهم، ولذلك وصف أهل الجنة فقال‏:‏ ‏(‏ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 13، 14‏]‏، إلى قوله‏:‏ ‏(‏وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 22- 24‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وكذلك قال فى أهل النار‏:‏ ‏(‏ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 28‏]‏، فأخبر أنه أثاب أهل طاعته جنته بطاعته، وجازى أهل معصيته النار بمعصيتهم إياه، ولم يخبرنا أنه أدخل من أدخل منهم النار والجنة لسابق علمه فيهم، ولكنه سبق فى علمه أن هذا من أهل السعادة والجنة وأنه يعمل بطاعته‏.‏

وفى هذا أنه من أهل الشقاء وأنه يعمل بعمل أهل النار فيدخلها بمعصيته؛ فلذلك أمر تعالى ونهى؛ ليطيعه المطيع منهم فيستوجب بطاعته الجنة ويستحق العقاب منهم بمعصيته العاصى فيدخل بها النار، ولتتم حجة الله على خلقه‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏)‏ إن كان الأمر كما وصف من أن الذى سبق لأهل السعادة والشقاء لم يضطر واحدًا من الفريقين إلى الذى كان يعمل ويمهد لنفسه فى الدنيا ولم يجبره على ذلك‏؟‏ قيل‏:‏ هو أن كل فريق من هذين مسهل له العمل الذى اختاره لنفسه، مزين ذلك له كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 7‏]‏ الآية‏.‏

وأما أهل الشقاء، فإنه زين لهم سوء أعمالهم لإيثارهم لها على الهدى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 4‏]‏، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏، وهذا يصحح ما قلناه من أن علم الله النافذ فى خلقه بما هم به عاملون، وكتابه الذى كتبه قبل خلقه إياهم بأعمالهم لم يضطر أحدًا منهم إلى عمله ذلك؛ بل هو أن المضطر إلى الشىء لا شك أنه مكره عليه، لا محب له؛ بل هو له كاره ومنه هارب، والكافر يقاتل دون كفره أهل الإيمان، والفاسق يناصب دون فسقه الأبرار؛ محاماة من هذا عن كفره الذى اختاره على الإيمان، وإيثارًا من هذا لفسقه على الطاعة، وكذلك المؤمن يبذل مهجته دون إيمانه، ويؤثر العناء والنصب دون ملاذه وشهواته حبًا لما هو له مختار من طاعة ربه على معاصيه، وأنى يكون مضطرًا إلى ما يعمله من كانت هذه صفاته‏؟‏ فبان أن معنى قوله‏:‏ ‏(‏اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏)‏ هو أن كل فريقى السعادة والشقاوة مسهل له العمل الذى اختاره، مزين ذلك له‏.‏

باب الْعَمَلُ بِالْخَوَاتِيمِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، شَهِدْنَا مَعَ النَّبِيّ عليه السلام خَيْبَرَ، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ يَدَّعِى الإسْلامَ‏:‏ ‏(‏هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ‏)‏، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ، قَاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ، وَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ، فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ‏)‏، فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَرْتَابُ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ وَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَانْتَزَعَ مِنْهَا سَهْمًا، فَانْتَحَرَ بِهَا، فَاشْتَدَّ رِجَالٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا‏:‏ صدق اللَّهُ حَدِيثَكَ، قَدِ انْتَحَرَ فُلانٌ، وَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قُمْ يَا بِلالُ، فَأَذِّنْ‏:‏ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا مُؤْمِنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ‏)‏‏.‏

- وروى‏:‏ سَهْل، عن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّمَا الأعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالخواتيم‏)‏ هو حكم الله فى عباده فى الخير والشر، فيغفر الكفر وأعماله بكلمة الحق يقولها العبد قبل الموت قبل المعاينة لملائكة العذاب، وكذلك يحبط عمل المؤمن إذا ختم له بالكفر‏.‏

ثم كذلك هذا الحكم موجود فى الشرع كله كقوله‏:‏ ‏(‏من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، ومن أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح‏)‏ فكذلك فى العصر فجعله مدركًا لفضل الوقت بإدراك الخاتمة، وإن كان لم يدرك منه إلا أقله، وكذلك من أدرك ليلة عرفة الوقوف بها قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، وتم له ما فاته من مقدماته، كما عهد الذى لم يعمل خيرًا قط أن يحرق ويذرى فكانت خاتمة سوء عمله خشية أدركته لربه، تلافاه الله بها فغفر له سوء عمله طول عمره، هذا فعل من لا تضره الذنوب، ولا تنفعه العبادة، وإنما تنفع وتضر المكتسب لها الدائم عليها إلى أن يموت‏.‏

وفى قوله‏:‏ ‏(‏العمل بالخواتيم‏)‏ حجة قاطعة على أهل القدر في قولهم‏:‏ إن الإنسان يملك أمر نفسه، ويختار لها الخير والشر، فمهما اتهموا اختيار الإنسان لأعماله الشهوانية واللذيذة عنده، فلا يتهمونه باختيار القتل لنفسه الذى هو أوجع الآلام، وأن الذى طيب عنده ذلك غير اختياره، والذى يسره له دون جبر عليه، ولا مغالب له هو قدر الله السابق فى عمله، والحتم من حكمه‏.‏

باب إِلْقَاءِ النَّذْرِ الْعَبْدَ إِلَى الْقَدَرِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ لا يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَأْتِى ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَىْءٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَدَّرْتُهُ، وَلَكِنْ يُلْقِيهِ، الْقَدَرُ وَقَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ، وَلَكِنْ أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا أبين شىء فى القدر وأنه شىء قد فرغ الله منه وأحكمه، لا أنه شىء يختاره العبد، فإذا أراد أن يستخرج به من البخيل شيئًا ينفعه به فى آخرته أو دنياه سبب له شيئًا مخيفًا أو مطمعًا فيحمله ذلك الخوف أو الطمع على أن ينذر لله نذرًا من عتق أو صدقة أو صيام، إن صرف الله عنه ذلك الخوف أو أتاه بذلك المطموع فيه، فلا يكون إلا ما قد قضى الله فى أم الكتاب، لا يحيله النذر الذى نذره عما قدره، وقد استخرج به منه ما لم يسمح به لولا المخوف الذى هرب منه، أو المطموع الذى حرص عليه حتى طابت نفسه بما لم تكن تطيب قبل ذلك‏.‏

ونهيه صلى الله عليه وسلم عن النذر، وهو من أعمال الخير أبلغ زاجر عن توهم العبد أنه يدفع عن نفسه ضرًا أو يجلب إليها نفعًا، أو يختار لها ما يشاء، ومتى اعتقد ذلك فقد جعل نفسه مشاركًا لله فى خلقه ومجوزًا عليه ما لم يقدره، تعالى الله عما يقولون‏.‏

ودل هذا أن اعتقاد القلب لما لا يجب اعتقاده أعظم فى الإثم من أن يكفر بالصدقة والصلاة والصوم والحج، وسائر أعمال الجوارح التى ينذرها؛ لأن نهيه صلى الله عليه وسلم عن هذا النذر، وإن كان خيرًا ظاهرًا يدل على أنه حابط من الفعل حين توهم به الخروج عما قدره الله تعالى فإن سلم من هذا الظن واعترف أن نذره لا يرد عنه شيئًا قد قدره الله عليه وأن الله تسبب له بما أخافه به استخراج صدقة هو شحيح بمثلها، فإنه مأجور بنذره ولم يكن حيئذ نذره منهيًا عنه، ولذلك والله أعلم عرف الله نبيه بهذا الحديث ليعرف أمته بما يجب أن يعتقدوا فى النذر فلا يحبط عملهم به‏.‏

باب لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى غَزَاةٍ، فَجَعَلْنَا لا نَصْعَدُ شَرَفًا، وَلا نَهْبِطُ وَاديًا، إِلا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، قَالَ‏:‏ فَدَنَا مِنَّا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا‏)‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِىَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ‏؟‏ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ‏)‏‏.‏

هذا باب جليل فى الرد على القدرية، وذلك أن معنى لا حول ولا قوة إلا بالله‏:‏ لا حول للعبد، ولا قوة له إلا بالله أى‏:‏ بخلق الله له الحول والقوة، التى هى القدرة على فعله للطاعة والمعصية‏.‏

قال المهلب‏:‏ فأخبر صلى الله عليه وسلم أن البارئ خالق لحول العبد وقدرته على مقدوره، وإذا كان خالقًا للقدرة، فلا شك أنه خالق للشىء المقدور، فيكون المقدور كسبًا للعبد خلقًا لله تعالى بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 102‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 49‏]‏، وقال محمد بن كعب القرظى‏:‏ نزلت هذه الآية يعنى الأخيرة تعبيرًا لأهل القدر‏.‏

والدليل على أن أفعالهم خلق لله أن أيديهم التى هى عندهم خالقة لأعمال الشر من التعدى والظلم وفروجهم التى هى خالقة للزنا قد توجد عاطلة عن الأعمال، عاجزة عنها، ألا ترى أن من الناس من يريد الزنا وهو يشتهيه بعضو لا آفة فيه، فلا يقدر عليه عند إرادته للزنا، ولو كان العبد خالقًا لأعماله لما عجزت أعضاؤه عند إرادته ومستحكم شهوته؛ فثبت أن القدرة ليست لها، وأنها لمقدر يقدرها إذ شاء، ويعطلها إذا شاء، لا إله إلا هو‏.‏

وإنما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالربع على أنفسهم على جهة الرفق بهم، وقد بينا هذا المعنى فى باب‏:‏ ما يكره من رفع الصوت بالتكبير فى كتاب الجهاد، وعرفهم أن ما يعلنون به من التكبير ويجتهدون فيه من الجهاد هو من فضل الله عليهم إذ لا حول لهم ولا قوة في شيء منه إلا بالله الذى أقدرهم عليه، وحببه إليهم، وإن كان فيه إتلاف نفوسهم؛ رغبة فى جزيل الأجر وعظيم الثواب‏.‏

وفيه‏:‏ أن التكبير يسمى دعاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا‏)‏ فجعل قولهم‏:‏ الله أكبر دعاء لله تعالى من أجل أنهم كانوا يريدون به إسماعه الشهادة له بالحق‏.‏

باب الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ

‏{‏عَاصِمٌ‏}‏‏:‏ مَانِعٌ‏.‏

قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏(‏سَدًّا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 94‏]‏ عَنِ الْحَقِّ، يَتَرَدَّدُونَ فِى الضَّلالَةِ،‏)‏ دَسَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 10‏]‏ أَغْوَاهَا‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلا لَهُ بِطَانَتَانِ‏:‏ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ، وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ، وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمه اللَّهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ عرض البخارى فى هذا الباب إثبات الأمور لله، فهو الذى يعصم من نزعات الشيطان، ومن شر كل وسواس خناس من الجنة والناس، وليس من خليفة ولا أمير إلا والناس حوله رجلان‏:‏ رجل يريد الدنيا والاستكثار منها، فهو يأمره بالشر ويحضه عليه ليجد به السبيل إلى انطلاق اليد على المحظورات ومخالفة الشرع، ويوهمه أنه إن لم يقتل ويغضب ويخف الناس لم يتم له شىء، ولم يرض بسياسة الله لعباده ببسط العدل وبخمد الأيدى، وأن فى ذلك صلاحًا لعباد والبلاد‏.‏

ولا يخلو سلطان أن يكون فى بطانته رجل يحضه على الخير، ويأمره به لتقوم به الحجة عليه من الله فى القيامة، وهم الأقل، والمعصوم من الأمراء من عصمه لا من عصمته نفسه الأمارة بالسوء بشهادة الله عليها الخالق لها، ومن أصدق من الله حديثًا‏.‏

باب ‏{‏وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 95‏]‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏،‏)‏ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 27‏]‏‏.‏

قَالَ ابْن عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏وَحِرْمٌ ‏(‏بِالْحَبَشِيَّةِ‏:‏ وَجَبَ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ، مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ، أَوْ يُكَذِّبُهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 95‏]‏، أى وجب عليهم أنهم لا يتوبون، وحرام وحرم معناها واحد، والتقدير‏:‏ وحرام على قرية أردنا إهلاكها التوبة من كفرهم، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏، أى قد نفذ علم الله فى قوم نوح أنه لا يؤمن منهم إلا من قد آمن، ولذلك قال نوح‏:‏ ‏(‏رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏، إذ قد أعلمتني أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، فأهلكهم لعلمه أنهم لا يرجعون إلى الإيمان، وموافقة الترجمة للحديث هو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا‏)‏ فأخبر أن الزنا ودواعيه كل ذلك مقدر على العبد غير خارج من سابق قدره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أدرك ذلك لا محالة‏)‏ إدراكه له من أجل أن الله كتبه عليه، وإنما سمى النظر والمنطق ومنى النفس وشهوتها زنا لما كانت دواعى إلى الزنا، والسبب قد يسمى باسم المسبب مجازًا واتساعًا لما بينهما من التعلق، غير أن زنا العين وزنا اللسان وتمنى النفس غير مؤاخذ به من اجتنب الزنا بفرجه؛ لأنه كذب زنا جوارحه بترك الزنا بفرجه، فاستخف زنا عينه ولسانه وقلبه؛ لأن ذلك من اللمم الذى يغفر باجتناب الكبائر، وزنا الفرج من أكبر الكبائر، فمن فعله فقد صدق زنا عينه ولسانه وقلبه؛ فيؤاخذ بإثم ذلك كله‏.‏

وفى قوله‏:‏ ‏(‏النفس تمنى وتشتهى‏)‏ دليل على أن فعل العبد ما نهاه الله عنه، مع تقدم تقديره تعالى وسابق علمه بفعله له باختيار منه أو إيثار، وليس بمجبر عليه ولا مضطر إلى فعله، وعلى هذا علق الثواب والعقاب، فسقط قول جهم بالإجبار بنص قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والنفس تمنى وتشتهى‏)‏ لأن المجبر مكره مضطر، وهو بخلاف المتمنى والمشتهى، واللمم صغار الذنوب وهى مغفورة باجتناب الكبائر، وقد تقدم فى كتاب الأدب‏.‏

باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قِى هذه الآية هِىَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏‏؟‏ هِىَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى ذكر هذا الحديث فى كتاب القدر هو ما ختم الله على الناس المكذبين لرؤياه من المشركين حين جعلها فتنة لهم فى تكذيب النبى الصادق فكانت زيادة فى طغيانهم، وكذلك جعل الشجرة الملعونة فى القرآن فتنة فقالوا‏:‏ كيف يكون فى النار شجرة‏؟‏ النار تحرق الشجر اليابس والأخضر، فجعل ذلك فتنة تزيد فى ضلالهم، فلا يؤمنوا على ما سبق فى علمه‏.‏

قال غيره‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 60‏]‏ يقتضى خلق الله للكفر به، ودواعى الكفر هى الفتنة، وذلك عدل منه تعالى‏.‏

وهذا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 27‏]‏، فهذا عام فى فعله كفر الكافرين، وإيمان المؤمنين ودواعى الإيمان والكفر خلافًا لمن زعم أن الله غير خالق أعمال العباد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏الشجرة الملعونة يعنى‏:‏ الملعون آكلها، وهم الكفار، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 43، 44‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 64‏]‏، فأخبر أنها تنبت فى النار، وأما قول الكفار‏:‏ كيف يكون فى النار شجرة، والنار تأكل الشجر، فإن هذه الشجرة التى أخبر الله أنها فى أصل الجحيم هى مخلوقة من جوهر لا تأكله النار كسلاسل النار وأغلالها وعقاربها وحياتها، وليس شىء من ذلك من جنس ما فى الدنيا مما لا يبقى على النار، وإنما خلقت من جنس لا تأكله النار، وكما خلق الله فى البحار من الحيوان ما لا يهلك فى الماء، وخلق فى الخل دودًا يعيش فيه ولا يهلكه، على أن الخل يفت الحجارة ويهرى الأجسام، ولم يكن ذلك إلا لموافقة ذلك الدود لجنس الخل وموافقة حيوان البحر جنس الماء، فكذلك ما خلق فى النار من الشجر والحيوان موافق لجنس النار، والله تعالى قادر أن يجعل النار بردًا وسلامًا، وأن يجعل الماء نارًا؛ لأنه على كل شىء قدير، فما أنكره الكفار من خلق الشجر فى النار عناد بين، وضلال واضح، أعاذنا الله من الضلال برحمته‏.‏

باب محاجة آدَمُ مُوسَى

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى‏:‏ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا، خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ‏:‏ يَا مُوسَى، اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِى عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِى بِأَرْبَعِينَ سَنَةً‏؟‏ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قاله ثَلاثًا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احتج آدم وموسى‏)‏‏:‏ أى التقت أرواحهما فى السماء، فوقع هذا الحجاج بينهما، وقد جاءت الرواية بذلك‏.‏

روى الطبرى، عن يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏إن موسى قال‏:‏ يا رب، أبونا آدم الذى أخرجنا ونفسه من الجنة‏.‏

فأراه الله آدم فقال‏:‏ أنت آدم‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ أنت الذى نفخ الله فيك من روحه، وعلمك الأسماء كلها، وأمر ملائكته أن يسجدوا لك، فما حملك أن أخرجتنا ونفسك من الجنة‏؟‏ قال‏:‏ ومن أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا موسى‏.‏

قال‏:‏ أنت نبى بنى إسرائيل الذى كلمك الله من وراء حجاب، لم يجعل بينك وبينه رسولاً‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فما وجدت فى كتاب الله أن ذلك كائن قبل أن أخلق‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏

قال المهلب وغيره‏:‏ ‏(‏فحج آدم موسى‏)‏ أى‏:‏ غلبه بالحجة‏.‏

قال الليث بن سعد‏:‏ وإنما صحت الحجة فى هذه القصة لآدم على موسى؛ من أجل أن الله قد غفر لآدم خطيئته، وتاب عليه، فلم يكن لموسى أن يعير بخطيئة قد غفرها الله له، ولذلك قال له آدم‏:‏ أنت موسى الذى آتاك الله التوراة، وفيها علم كل شىء فوجدت فيها أن الله قد قدّر علىّ المعصية، وقدر علىّ التوبة منها، وأسقط بذلك اللوم عنى، أتلومنى أنت، والله لا يلومنى‏.‏

وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذى قال له‏:‏ إن عثمان فرّ يوم أحد، فقال ابن عمر‏:‏ ما على عثمان ذنب؛ لأن الله تعالى قد عفا عنه بقوله‏:‏ ‏(‏وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 155‏]‏، وأما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة، فإن العلماء مجمعون أنه لا يجوز له أن يحتج بمثل حجة آدم فيقول‏:‏ أتلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت، وقد قدر الله علىّ ذلك‏.‏

والأمة مجمعة على جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسئ على إساءته وتعديد ذنوبه عليه‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإن القدرية احتجت بقول موسى‏:‏ أنت آدم، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فنسب التخييب والإخراج إليه، قالوا‏:‏ هذا يدل أن العباد يخلقون أفعالهم طاعتها ومعصيتها، ولو كانت خلقًا لله لم يصح أن يأمرهم ولا ينهاهم، قال‏:‏ وكذلك احتجت الجهمية على صحة الجبر بقول آدم‏:‏ أتلومني على أمر قدر عليّ‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه ليس فى قول موسى دليل قاطع على اعتقاد القول بالقدر، وأن العبد خالق لأفعاله دون ربه كما زعمت القدرية؛ لأنه ليس فى قوله‏:‏ ‏(‏أنت آدم، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة‏)‏‏.‏

أكثر من إضافة التخييب والإخراج إليه، وإضافة ذلك إليه لا يقتضى كونه خالقًا لهما؛ إذ يصح فى اللغة إضافة الفعل إلى من يقع منه على سبيل الخلق، وإلى من يقع منه على سبيل الاكتساب، وإذا احتملت إضافة التخييب والإخراج الوجهين جميعًا لم يقبض بظاهره على أحد الاحتمالين دون الآخر إلا بدليل قاطع، وقد قام الدليل الواضح على استحالة اختراع المخلوق أفعاله دون إقدار الله له على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 102‏]‏، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 96‏]‏، وليس يجوز أن يريد تعالى بهذا الحجارة؛ لأن الحجارة أجسام، والأجسام لا يجوز أن يعملها العباد فدل أنه تعالى خالق أعمالهم وقوله تعالى‏:‏ ‏)‏ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 29‏]‏، واجتماعهم فعل لهم، وقد أخبر أنه تعالى خلقهم، وقد ثبت أنه تعالى قادر على جميع أجناس الحركات التى يحدثها العباد بدلالة أنه أقدرهم عليها، وما أقدرهم عليه فهو عليه أقدر، كما أنه ما أعلمهم إياه فهو به أعلم، فثبت أن الله خالق للأفعال، والعبد مكتسب لها، كما تقول‏:‏ إن الله منفرد بخلق الولد، والوالد منفرد بكون الولد له لا شركة فيه لغيره‏.‏

فنسبة الأفعال إلى الله تعالى من جهة خلقه لها، ونسبتها إلى العباد من جهة اكتسابهم لها، هذا مذهب أهل السنة والحق، وهو مذهب موسى صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ ‏(‏إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏، فأضاف موسى الهداية والإضلال إلى الله تعالى، ولا تصح هذه الإضافة إلا على سبيل خلقه لها دون من وجدت منه، وأما قول الجهمية‏:‏ إن الله أجبر العباد على أفعالهم، وهم مكرهون على الطاعة والمعصية‏.‏

واحتجوا بقول آدم‏:‏ أتلومنى على أمر قد قدر على قبل أن أخلق‏.‏

فلا حجة لهم فيه أيضًا؛ لأن الموجود بالاعتبار والمشاهدة خلاف قولهم، وذلك أن العباد لا يأتون الذنوب إلا مشتهين لها، راغبين فيها، والإجبار عند أهل اللغة‏:‏ هو اضطرار المرء إلى الفعل وإدخاله فيه غير راغب فيه ولا محب له كالمحسوب على وجهه، والمرتعش من الحمى، والفالج‏.‏

وأهل الجبر معتقدون لوم من وقعت منه معصية الله وتأنيبه عليها أشد التأنيب، ومدح من وقعت منه الطاعة وإثباته عليها، وإذا كان هذا اعتقادهم؛ فاحتجاجهم بتأنيب آدم موسى على لومه له على أمر قد قدره عليه، وكرهه عليه فاسد متناقض على مذهبهم، ومحاجة آدم موسى هى أنه ذاكره ما قد عرفه ووقف عليه فى التوراة من توبة الله على آدم من خطيئته وإسقاطه اللوم عليها؛ فوجب على موسى ترك لومه وعتابه على ما كان منه‏.‏

وقد ثبت أن جعفر بن محمد الصادق قيل له‏:‏ قد أجبر الله العباد‏؟‏ قال‏:‏ الله أعدل من ذلك‏.‏

قيل‏:‏ هل فوض إليهم‏؟‏ قال‏:‏ الله أغير من ذلك، لو أجبرهم ما عذبهم، ولو فرض إليهم ما كان للأمر والنهى معنى‏.‏

قلت‏:‏ فكيف تقول إذًا‏؟‏ قال‏:‏ منزلة بين منزلتين هى أبعد مما بين السماء والأرض؛ ولله فى ذلك سرّ لا تعلمونه‏.‏

واحتجت أيضًا طائفة من القدرية المجبرة غير الجهمية بهذا الحديث، فقالت‏:‏ إن كان صحيحًا قول آدم لموسى‏:‏ أتلومنى على أمر قدره الله على قبل أن أخلق؛ فلا لوم على كافر فى كفره، ولا فاسق فى فسقه، ولا يجوز أن يجور عليهم ويعذبهم على ما اضطرهم إليه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فالجواب أنه ليس معنى قوله‏:‏ أتلومنى على أمر كتبه الله علىّ قبل أن أخلق، كما توهمته، وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه، وقد عاقبه الله على خطيئته تلك بإخراجه من الجنة، ولو لم يكن ملومًا لكان وكنا فى الجنة كما أسكنه الله؛ ولكنه جل جلاله أخرجه منها لخطيئته تلك عقوبةً عليها، ولم يعاقبه على ما قضى عليه؛ لأنه لو عاقبه عليه لما كان يسكنه الجنة حين أسكنه إياها، وذلك أن القضاء عليه بذلك قد كان مضى قبل أن يخلقه؛ فإنما استحق العقوبة على فعله، لا على ما قضى عليه؛ وبمثل هذا أقر موسى لآدم بصحة حجته، ولم يقل له كما زعمت القدرية‏:‏ ليس الأمر كما تزعم؛ لأن الله لو قضى عليك ذلك قبل أن يخلقك لم يعاقبك، ولكن لما كان من دين الله الذى أخذ بالإقرار به عهود أنبيائه ومواثيقهم أنه لا شىء كان فيما مضى ولا فيما يحدث إلا قد مضى به قضاؤه؛ فإنه غير معاقبهم على قضائه، ولكن على طاعتهم ومعاصيهم، وكان ذلك معلومًا عند الأنبياء والرسل، أقر موسى لآدم صلى الله عليهما بأن الذى احتج به عليه له حجة؛ وحقق صحة ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ فحج آدم موسى‏.‏

قال غير الطبرى‏:‏ وفى حديث أبى هريرة حجة لما يقوله أهل السنة‏:‏ أن الجنة التى أهبط منها أبونا آدم صلى الله عليه وسلم هى جنة الخلد، ورد قول من زعم أنها لم تكن جنة الخلد، قالوا‏:‏ وإنما كانت جنة بأرض عدن، واحتجوا على بدعتهم فقالوا‏:‏ أن الله خلق الجنة لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد لغا فيها إبليس حين كذب لآدم، وأثم فى كذبه، وأنه لا يسمع أهلها لغوًا ولا كذبًا، وأنه لا يخرج منها أهلها، وقد أخرج منها آدم وحواء بمعصيتهم، قالوا‏:‏ وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد، وهو فى دار الخلود والملك الذى لا يبلى‏؟‏ وأيضًا فإن جنة الخلد دار القدس‏:‏ قدست عن الخطايا والمعاصى كلها تطهيرًا لها؛ فيقال لهم‏:‏ الدليل على إبطال قولكم قول موسى لآدم‏:‏ أنت الذى أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة، فأدخل الألف واللام ليدل على أنها الجنة المعروفة؛ جنة الخلد التى وعد الله المؤمنين بها، التى لا عوض لها فى الدنيا فلم ينكر ذلك آدم عليه من قوله، ولو كانت غير جنة الخلد لرد آدم على موسى، وقال‏:‏ إنى أخرجتهم من دار فناء وشقاء وزوال وعرى إلى مثلها، فلما سكت آدم على ما قرره موسى؛ صح أن الدار التى أخرجهم الله منها بخلاف الدار التى أخرجوا إليها فى جميع الأحوال، ويقال لهم فيما احتجوا به‏:‏ إن الله خلق الجنة لا لغو فيها ولا تأثيم، ولا كذب، ولا يخرج منها أهلها هذا كله بما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، وقد أخبر‏:‏ أن آدم إن عصاه فيما نهاه عنه أخرجه عنها، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد فى وقت لمن أراد تخليده فيها، وقد يخرج منها من قضى عليه الفناء‏.‏

وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها، وأنها كانت بيد إبليس مفاتيحها ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد دخلها النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، ثم خرج منها وأخبر بما رأى فيها، وأنها هى جنة الخلد حقًا، وقولهم كيف يجوز على آدم فى كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو فى دار الخلد؛ فيرد عليهم،، ويقال لهم‏:‏ كيف يجوز على آدم فى كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد فى دار الفناء؛ هذا لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل، وأما عقولهم‏:‏ إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله من الخطايا؛ فهو جهل منهم، وذلك أن الله سبحانه أمر بنى إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهى بالشام، وأجمع أهل الشرائع على أن الله قدسها، وقد شاهدوا فيها المعاصى، والكفر، والكذب، ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصى فكذلك دار الخلد، وأهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هى التى أهبط منها آدم، فلا معنى لقول من خالفهم، قاله بعض شيوخنا‏.‏

باب لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ

- فيه‏:‏ الْمُغِيرَة، كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ خَلْفَ الصَّلاةِ‏:‏ ‏(‏لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ المراد بهذا الحديث إثبات خلق الله تعالى جميع أعمال العباد؛ لأن قوله‏:‏ ‏(‏لا مانع لما أعطيت‏)‏ يقتضى نفى جميع المانعين سواه، وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏ولا معطى لما منعت‏)‏ يقتضى نفى جميع المعطين سواه، وأنه لا معطى ولا مانع على الحقيقة بفعل المنع والعطاء سواه، وإذا كان كذلك ثبت أن من أعطى أو منع من المخلوقين فإعطاؤه ومنعه خلق لله وكسب للعبد، والله تعالى هو المعطى وهو المانع لذلك، حقيقة من حيث كان مخترعًا خالقًا للإعطاء والمنع، والعبد مكتسب لهما بقدرة محدثة، فبان أنه إنما نفى مانعًا ومعطيًا مخترعًا للمنع والإعطاء ويخلقهما‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لا ينفع ذا الجد منك الجدَ‏)‏، بفتح الجيم فى الحرفين جميعًا يقول‏:‏ لا ينفع ذا الحظ فى الدنيا من المال والولد منك حظه فى الآخرة؛ لأنه إنما ينفع فى الآخرة عند الله العمل الصالح لا المال والبنون، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ الآية‏.‏

وحكى عن أبى عمرو الشيبانى أنه كان يقول‏:‏ إنما هو الجِد، بكسر الجيم فى الحرفين جميعًا، بمعنى‏:‏ ولا ينفع ذا الاجتهاد فى العمل منك اجتهاده‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وهذا خلاف ما يعرفه أهل النقل والرواة لهذا الحديث، ولا نعلم أحدًا قال ذلك غيره مع بُعد تأويله من الصحة‏.‏

باب نَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ

وَقَالَ تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأعْدَاءِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ المستفاد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 1‏]‏ إلى آخر السورة، خلق الله تعالى لشر ما خلق، ولشر غاسق، ولشر النفاثات، ولشر حاسد؛ لأنه لو كان هذا الشر كله خلقًا لمن أضافه إليه من الغاسق والنفاثات والحاسد، مخترعًا لا كسبًا؛ لم يكن لأمر الله تعالى لنبيه ولعباده بالتعوذ به من شر ذلك كله معنى، وإنما يصح التعوذ به عز وجل مما هو قادر عليه دون من أضافه إليه، فتعبدنا تعالى بسؤاله دفع شر خلقه عنا؛ لأنه إذا كان قادرًا على فعل ما أضافه إلى من ذكر فى السورة كان قادرًا على فعل ضده وتعبدنا بسؤاله تعالى فعل ضد ما أمرنا بالاستعاذة منه، فبان أن الخير والشر بهذا النص خلق الله تعالى‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء‏)‏، فإنما أمرنا بالتعوذ به تعالى من أن ينزل بنا فعلاً من أفعاله سبق علينا نزوله بنا لما يقتضيه من الشدة والمشقة، وذلك بلاء وشقاء وسوء قضاء وشماتة أعداء، فالشقاء يكون فى دين ودنيا، وإذا كان فى الدنيا كان تضييقًا فى العيش، وتقتيرًا فى الرزق، وذلك فعل الله وإن كان فى الدين فذلك كفر أو معاصٍ، وذلك فعل الله أيضًا، وكذلك سوء القضاء عام فى جميع ما قضاه تعالى من أمر الدين والدنيا، وشماتة الأعداء، وإن كانت مضافة إليهم إضافة الفعل إلى فاعله فى الظاهر، فإنما ذلك على سبيل إضافة الكسب إلى مكتسبه، لا على سبيل الاختراع، إذ لا يصح فى المخلوق اختراع عين، فبان أن جميع ما أمرنا بالتعوذ منه به خلق الله بدليل قوله‏:‏ ‏(‏خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 102‏]‏‏.‏

باب يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، كَثِيرًا مَا كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ‏:‏ ‏(‏لا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبيىُّ صلى الله عليه وسلم لابْنِ صَيَّادٍ‏:‏ ‏(‏اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ‏)‏، قَالَ عُمَرُ‏:‏ ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏دَعْهُ إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلا تُطِيقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ، فَلا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 24‏]‏، يقتضى النص منه تعالى على خلقه الكفر والإيمان بأن يحول بين قلب الكافر والإيمان الذى أمره به، فلا يكتسبه إذ لم يقدره عليه؛ بل أقدره على ضده وهو الكفر، ويحول بين المؤمن وبين الكفر الذى نهاه عنه بأن لم يقدر عليه؛ أقدره على الإيمان الذى هو به ملتبس وإذا خلق تعالى لهما القدرة على ما هما مكتسبان له مختاران لاكتسابه، فلا شك أنه خالق لكفرهما وإيمانهما؛ لأن خلقه لكفر أحدهما، وإيمان الآخر من جنس خلق قدرتيهما عليهما، ومحال كونه قادرًا على شىء غير قادر على خلافه أو ضده أو مثله، فبان أنه خالق بهذا النص لجميع كسب العباد، خيرها وشرها، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ومقلب القلوب‏)‏ لأن معنى ذلك تقليبه قلب عبده عن إيثار الإيمان إلى إيثار الكفر، وعن إيثار الكفر إلى إيثار الإيمان، وكان فعل الله ذلك عدلاً فيمن أضله وخذله؛ لأنه لم يمنعهم حقًا وجب عليه فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم وأضلهم؛ لأنهم ملك من ملكه خلقهم على إرادته، لا على إرادتهم، فكان ما خلق فيهم من قوة الهداية والتوفيق على وجه الفضل، وقد بين هذا المعنى إياس بن معاوية؛ ذكر الآجرى بإسناده عن حبيب بن الشهيد قال‏:‏ ‏(‏جاءوا برجل يتكلم فى القدر إلى إياس بن معاوية فقال له إياس‏:‏ ما تقول‏؟‏ قال‏:‏ أقول إن الله أمر العباد ونهاهم فإن الله لا يظلمهم شيئًا‏.‏

فقال له إياس‏:‏ أخبرنى عن الظلم، تعرفه أو لا تعرفه‏.‏

قال‏:‏ بل أعرفه‏.‏

قال‏:‏ ما الظلم‏؟‏ قال‏:‏ أن يأخذ الرجل ما ليس له‏.‏

قال‏:‏ فمن أخذ ما له ظلم‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

قال إياس‏:‏ فإن لله تعالى كل شىء‏.‏

وقال عمران بن حصين لأبى الأسود الدؤلى‏:‏ لو عذب الله أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أوسع لهم، ولو أنفقت مثل أُحد ذهبًا ما تقبل منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره‏.‏

وروى مثل ذلك عن ابن مسعود، وأبى بن كعب، وسعد بن أبى وقاص، وزيد بن ثابت، وقال زيد‏:‏ سمعته من رسول الله إلا أنه قال‏:‏ ‏(‏ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم‏)‏‏.‏

وموافقة الحديث للترجمة قول النبى صلى الله عليه وسلم لعمر‏:‏ ‏(‏إن يكن هو فلا تطيقه، وإن لم يكن هو فلا خير لك فى قتله‏)‏ يعنى إنه إن كان الدجال قد سبق فى علم الله خروجه وإضلاله للناس، فلن يقدرك خالقك على قتل من سبق فى عمله أنه يخرج ويضل الناس؛ إذ لو أقدرك على ذلك لكان فيه انقلاب علمه، والله تعالى منزه عن ذلك‏.‏

باب ‏{‏قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 51‏]‏

قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏(‏بِفَاتِنِينَ ‏(‏‏:‏ بِمُضِلِّينَ إِلا مَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصْلَى الْجَحِيمَ،‏)‏ قَدَّرَ فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 3‏]‏‏:‏ قَدَّرَ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَهَدَى الأنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعُونِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍة يَكُونُ فِيهِ، وَيَمْكُثُ فِيهِ لا يَخْرُجُ مِنَ الْبَلَدِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يُصِيبُهُ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ‏)‏‏.‏

معنى هذا الباب أن الله أعلم عباده أن ما يصيبهم فى الدنيا من الشدائد والمحن والضيق والخصب والجدب، أن ذلك كله فعل الله يفعل من ذلك ما يشاء بعباده ويبتليهم بالخير والشر، وذلك كله مكتوب فى اللوح المحفوظ، ولا خلاف فى هذا بين جماعة الأمة من قدرى وسُنى، وإنما اختلفوا فى أفعال العباد الواقعة منهم على ما تقدم وهذه الآية إنما جاءت فيما أصاب العباد من أفعال الله التى اختص باختراعها دون خلقة، ولم يقدرهم على كسبها دون ما أصابوه مكتسبين له مختارين‏.‏

باب ‏{‏وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏ و‏{‏لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 57‏]‏

- فيه‏:‏ الْبَرَاء، رَأَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلا صُمْنَا وَلا صَلَّيْنَا‏)‏‏.‏

فى هاتين الآيتين وفى الحديث نص أن الله تعالى انفرد بخلق الهدى والضلال، وإنما قدر العباد على اكتساب ما أراد منهم اكتسابهم له من إيمان أو كفر، وأن ذلك ليس بخلق للعباد كما زعمت القدرية‏.‏

وروى أن على بن أبى طالب لقى رجلاً من القدرية فقال له‏:‏ خالفتم الله وخالفتم الملائكة، وخالفتم أهل الجنة وخالفتم أهل النار، وخالفتم الأنبياء وخالفتم الشيطان، فأما خلافكم الله فقوله‏:‏ ‏(‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏، وأما خلافكم الملائكة فقولهم‏:‏ ‏(‏لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 32‏]‏، وأما خلافكم الأنبياء، فقول نوح‏:‏ ‏(‏وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 34‏]‏، وأما خلافكم أهل الجنة، فقولهم‏:‏ ‏(‏الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراب‏:‏ 43‏]‏، وأما خلافكم لأهل النار، فقولهم‏:‏ ‏(‏رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 106‏]‏، وأما خلافكم الشيطان، فقول إبليس‏:‏ ‏(‏رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وذكر الآجرى بإسناده عن على بن أبى طالب أن رجلاً أتاه فقال‏:‏ أخبرنى عن القدر، فقال‏:‏ طريق مظلم فلا تسلكه‏.‏

قال‏:‏ أخبرنى عن القدر‏.‏

قال‏:‏ بحر عميق فلا تلجه، قال‏:‏ أخبرنى عن القدر، قال‏:‏ سر الله فلا تكلفه، ثم ولى الرجل غير بعيد، ثم رجع فقال لعلى‏:‏ فى المشيئة الأولى أقوم وأقعد، وأقبض وأبسط فقال له على‏:‏ إنى سائلك عن ثلاث خصال ولن يجعل الله لك مخرجًا، قال‏:‏ أخبرنى أخلقك الله لما شاء أم لما شئت‏؟‏ قال‏:‏ بل لما شاء، قال‏:‏ أخبرنى أتجئ يوم القيامة كما يشاء أو كما شئت‏؟‏ قال‏:‏ بل كما يشاء‏.‏

قال‏:‏ أخبرنى أجعلك الله كما شاء أو كما شئت‏؟‏ قال‏:‏ بل كما شاء‏.‏

قال‏:‏ فليس لك من المشيئة شىء‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظى‏:‏ لقد سمى الله المكذبين بالقدر باسم نسبهم إليه فى القرآن فقال‏:‏ ‏(‏إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 47- 49‏]‏ فهم المجرمون‏.‏